الحكواتي صوت قوي وبطل للرواية
الجمعة 23 أيلول2011
احتل الحكواتي مكانة كبيرة ومرموقة في المجتمع الدمشقي كما يروي لنا
معمرو "دمشق"، ولعل لتلك الشخصيات ذكريات كثيرة يتذكرها أهل "دمشق".
موقع "eDamascus" التقى الباحث "مروان مراد" ليحدثنا عن تلك الذكريات
بقوله: «كانت هناك السدة العالية من الخشب المجللة بالسجاد التي كانت
تتواجد في مقاهي دمشق القديمة وحولها أصص نباتية، حينما كان الناس يقضون
أوقات فراغهم وسهراتهم في المقاهي للاستماع إلى الحكواتي، والحكواتي واحد
من الشخصيات الشعبية في مدينة "دمشق"، الحكواتي اسمٌ لمن يحفظ الحكايات
ويلقيها عن ظهر قلب، وظهر مع ظهور المقاهي في مدينة "دمشق" والتي كان ينوف
عددها على المئة، وكان ذلك بعد النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي،
وهو الذي كان يأتي إلى المقهى في وقت محدد لإلقاء الحكايات، فكان يتخذ
مكانه في صدر المقهى، وكان الحكواتي قبل أن يبدأ يحكي ما يسمى دهليز
الحكاية وهو عبارة عن مقدمة يسردها ريثما يصل الجمهور المتأخر، وفيها يتحدث
عن أمور ضاحكة، ويقدم بعض النصائح، ثم يروي موجزاً عما قدمه في الليلة
الماضية، تماماً كما تفعل اليوم المسلسلات التلفزيونية، ذلك أنه يتوقف عن
الكلام في جزءٍ من القصة تحترق النفوس لتوقفه وهذا يدل على مهارته حتى يبكر
الناس للاستماع إلى تمام القصة بشوقٍ في اليوم التالي، وكان من براعة
الإلقاء المثير آنذاك أن الحكواتي يتخذ لنفسه وسائل لتحميس الجمهور، حتى إن
بعض الحكواتية ممن برعوا في إلقاء الحكايات والسير الشعبية كان يغادر
السدّة وينزل إلى الجمهور وقد أمسك سيفاً أو خيزرانة يلوح بها ويضرب على
الطاولات وكأنه هو نفسه بطل الحكاية أو السيرة
ما يثير الحماس في النفوس، كما أن بعض الحكواتية كان يستخدم أكثر من
لغة في سرد حكاياتهم مراعاةً منهم لنوعية المستمعين في مقاهي "دمشق"، خاصة
أن تأثير الحكواتي كان يقع على المستمعين من خلال وقائع قصته من ناحية،
ونبرة صوته التي تتلوّن حسب وقائع الأحداث من ناحية أخرى، ويذكر البديري
الحلاق صاحب كتاب حوادث "دمشق" أن "سليمان ابن الحشيش" الذي كان من أشهر
الحكواتية وقد كان فريد عصره ووحيد أوانه، كان يحكي سيرة "الظاهر بيبرس
وعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن" ونوادر غريبة باللغتين العربية والتركية،
مع العلم أنه أمّي لا يقرأ ولا يكتب».
ويقول السيد "محمد علي" من معمري "دمشق": «الحكواتي القديم كان يتعب في صنع
المقدمة، هذا هو الحكواتي، وكان آخر حكواتي في مدينة "دمشق" المرحوم "عبد
الحميد الهواري"- حكواتي دمشق الأول- والملقب "أبو أحمد المنعش"، كان يقدم
حكاياه في مقهى "النوفرة" بالقرب من "الجامع الأموي" في "دمشق" والذي ما
زال على حاله إلى يومنا هذا.
هذا هو الحكواتي، أما "الكراكوزاتي"، فقد كان أكثر تأثيراً على مشاهديه
ومستمعيه من الحكواتي لأنه بالإضافة إلى ما يفعله الحكواتي؛ كان يعرض صوراً
لشخصيات قصصه المختلفة، ويلوّن نبرات صوته من وراء الستارة مع كل شخصية
بحيث تختلف من شخصية إلى أخرى وهذا ما كان يسمى خيال الظل، وخيال الظل كان
فناً مركَّباً ومعقَّداً، فالكراكوزاتي ومعاونوه كانوا ينصبون خيمة الظلال
في المقاهي ويعرضون حكايات شخوصها
بأنماط ثابتة، وحبكاتها مرنة، تتمدد بالارتجال والتفاعل مع
المشاهدين، وكان ذلك يقتضي تنوّعاً وتعدداً في المواهب، ويحتاج تجهيزاتٍ
وبراعات تقنية، أما أشخاص الكراكوز التي تظهر خيالاتها في كل فصل فهي
"كراكوز وعيواظ"، ثم المدلل وهو أصغر خيال في الخيمة، وقريطم الخيَّال الذي
يمثل الرجل المصري بكلامه، و"أبو أركيلة"، إضافة إلى حمار الخيمة الذي
يدعى كرش، وقد أدرج "القاسمي" في قاموس الصناعات الشامية "خيال الظل" بين
الصناعات أو الحِرَف التي كانت رائجة في مدينة "دمشق" أواخر القرن التاسع
عشر وأوائل القرن العشرين، وكان يشكل جزءاً من النسيج الاجتماعي للحياة
المدنيّة، حين عيّن الوالي العثماني "مدحت باشا" على مدينة "دمشق" عام 1878
ونزل إلى المدينة ليتفقد أحوالها الاجتماعية والثقافية صدمته كثرة المقاهي
التي تُمثَّل فيها حكايات "كراكوز"، فانتقد وجهاء مدينة "دمشق" ولامهم
لإقبالهم عليها فحاول "مدحت باشا" تغيير هذا الواقع فشجّع "أبا خليل
القباني" على تنظيم تجربته وإقامة مسرح دائم في "دمشق"».
أما الاستاذ مروان مراد" فيكمل: «راج هذا الفن قروناً طويلة، ولم يصلنا منه
إلا النزر اليسير؛ وإني لأستغرب اليوم أين ذهبت آلاف التمثيليات التي
يُفتَرَض أنها أُلِّفت وسُجِّلت وعُرِضت طوال هذه القرون؟ فهذا النزر
اليسير الذي وصلنا عن هذا الفن لا يساعدنا على ترتيب أية صورة تقريبية
لتطوّره، وللسياق الذي اتخذه منذ ظهوره قبل عدة قرون وحتى انطفائه في النصف
الأول من القرن العشرين، القصاص الشعبي والأستاذ الباحث "محيي الدين
قرنفلة" يرى أن
الأصل الشعبي للإقبال الكبير على مسلسلات "حمّام
الهنا" و"مقالب غوار" في وقت قريب مضى ما هو إلا امتداد باقٍ في النفوس
لتأثير فصول خيال الظل التي لاقت الإقبال نفسه في القرون السابقة، و"خيال
الظل" يمثّل تمثيلاً دقيقاً حياة وتفكير ونفسية الشعوب في فترة الاحتلال
العثماني، حينما كانت فصول خيال الظل شغل الناس الشاغل ومسرحاً لنكاتهم
وتمثيلياتهم، وقد دخل هذا الفن إلى القصور لكنه طُرِد منها وازدهر مع
الشعب؛ فعكس دائماً الأحداث الهامة والمجريات اليومية».